ضَجّت في الأيّام القليلة الماضية وسائل الإعلام اللبنانية بأكثر من حادث قتل وإعتداء دَمَوي بسبب خلافات فرديّة على "أفضليّة المُرور"(1)! وهذا النوع من الجرائم ليس بجديد على لبنان، حيث أنّه غالباً ما نسمع بجرائم قتل بسبب خلافات سطحيّة وتافهة. فما هي أسباب هذه الظاهرة؟
قبل الإجابة على هذا السؤال، لا بُد من الإشارة إلى أنّ الإحصاءات الخاصة بعالم الجريمة الفرديّة بمختلف أنواعها ومُسبّباتها، تُقدّر وقوع ما بين 400000 و500000 جريمة قتل فرديّة في العالم أجمع سنوياً، ولا يتمّ تصنيف أيّ مُجتمع بالعُنفي إلا في حال تجاوز عدد ضحايا جرائم القتل فيه، الأربعين شخصاً لكل مئة ألف نسمة سنوياً. وهذا الواقع يتركّز خصوصاً في مُدن تقع في بعض دول أميركا الجنوبيّة وفي بعض الولايات الأميركيّة، وهو لا ينطبق على المُجتمع اللبناني حيث أنّ نسبة الجريمة الفرديّة غير مُرتفعة جداً نسبة إلى عدد السُكّان الإجمالي، ولوّ أنّها تبدو عكس ذلك في بعض الأحيان. لكنّ اللافت في الواقع اللبناني يتمثّل في إستسهال عمليّات القتل، ولأسباب سخيفة في أغلبيّة الأوقات، ولعلّ أسخفها على الإطلاق هو ما يُسمّى "أفضليّة المُرور"! والمُفارقة أنّ اللبناني الذي يتبَاهى بتهذيبه المُبالغ فيه وبلباقته في كثير من المواقف التي تتضمّن إحتكاكاً مُباشراً بالآخرين، يتحوّل إلى شخص عدائي بشكل سريع ومُستغرب بمُجرّد جلوسه خلف المقود، بحيث تتبخّر عبارة "تفضّل، تفضّل..." المُعتمدة في الأماكن العامة لتقديم مُرور الآخرين على مرورنا الشخصي، وتحلّ مكانها "الأنا" التي تستوجب عدم السماح لأيّ شخص بالمرور بسيارته قبل مرور سيارتنا!
والفوضى البنيوية للطرقات اللبنانية، وعدم تقيّد قسم كبير من السائقين بقوانين السير، تستفزّ الكثيرين وتجعلهم على أهبّة الإستعداد للتورّط في خلافات مع باقي مُستخدمي الطرقات، وغالباً ما تكون الشتائم المُتبادلة وحتى التهديدات العلنيّة هي الأسلوب الأوسع إعتماداً. ويبلغ التوتّر والإحتقان لدى البعض حد عدم التردّد بالترجّل من السيارات والدخول في عراك بالسلاح الأبيض مع الآخرين بسبب إحتكاكات فوضى القيادة وتجاوزات بعض السائقين المُستفزّة. ويبلغ إنفعال فئة قليلة لكن موجودة حد التورّط بجرائم قتل، لأسباب أكثر من تافهة.
وبحسب علم النَفس إنّ أبرز أسباب العدائيّة المَوجودة في مجتمعنا اللبناني تُختصر بالتالي:
أوّلاً: تأثير الحرب على أكثر من جيل عايشها، وتمرير ميله العُنفي اللاواعي واللاإرادي إلى أولاده في تربيته وأفعاله وأسلوب تصرّفه.
ثانياً: تأثير الحروب المحيطة بلبنان، ومُتابعة التغطية الإعلاميّة المُتواصلة لها، بحيث أنّ مشاهد القتل والدم والعنف صارت من المشاهد المُعتادة والمألوفة وغير المُثيرة للإشمئزاز للبنانيّين عُموماً.
ثالثاً: تأثير الإنقسامات التي يُعاني منها المُجتمع اللبناني، لأسباب سياسيّة وطائفيّة ومذهبيّة، والتي تجعل بعض الناس عدائيّين إزاء الآخرين بالمُطلق، وخاصة في حال الإشتباه بأنّهم من خارج البيئة الضيّقة التي يَنتمون إليها.
رابعاً: تأثير بعض العادات والتقاليد القبليّة والعشائريّة المَوروثة، لجهة رفض السكوت على الشتيمة وعدم التهاون إزاء كل ما له علاقة بإثبات الفُحولة والرجولة.
خامساً: تربية بعض الأبناء على ثقافة القتل والعنف إنطلاقاً من خلفيّات سياسيّة عقائديّة أو حتى من خلفيّات ذكوريّة، بما يتجاوز بكثير إنعكاسات مسألة مشاهدة الأفلام التي تتضمّن مشاهد قتل وعنف، ومسألة تشغيل الألعاب الرقميّة التي تُروّج للقتل وللعنف من باب التسلية والترفيه.
سادساً: إنتشار السلاح بمختلف أنواعه في أيدي عدد كبير من اللبنانيّين، ولجوء الكثيرين إلى الإستزلام لشخصيّات سياسيّة، وإعتقادهم أنّ هذا الأمر يحميهم من الملاحقة القانونيّة في حال تورّطهم بأيّ جريمة.
سابعاً: غياب المُحاسبة الفعليّة لبعض المُرتكبين، وتأمين فرار بعضهم، وغياب التغطية الإعلاميّة المناسبة للأحكام التي تصدر بحقّ مُتورّطين جرى إلقاء القبض عليهم ومحاكمتهم، بعكس التغطية التي تكون كبيرة وواسعة عند إرتكاب الجُرم.
في الختام، ولأنّه من غير المُرجّح أن تلجأ دولتنا إلى تقليد بعض الدول الغربيّة المُتحضّرة لجهة تطبيق برنامج إستبدال الأسلحة بالدرّاجات(2)، فإنّ أقصى ما نأمل به هو أن تقوم الأجهزة الأمنيّة ببذل جهود كبيرة لتوقيف المُتورّطين بأصغر الجرائم من دون التوقف عند الإعتبارات السياسيّة والطائفيّة والمناطقية، وأن تقوم وسائل الإعلام بملاحقة هذه القضايا حتى نهايتها وعدم الإكتفاء بالمرحلة الأولى المُثيرة من الجرائم، بل بتغطية مرحلة إصدار الأحكام بحق المُتورّطين بالشكل الذي تستحقّه، علّ هذا الأمر يكون رادعاً للبعض. ويبقى أن نأمل أيضاً أن تُصبح "الرُجولة" بنظر اللبنانيّين هي في تصوير المُرتكبين وفي تسجيل جرائمهم بالصوت وبالصورة، كما حصل في أكثر من حادث أخيراً، وليس في إستسهال قتل الآخرين في الشارع لأتفه الأسباب!
(1)منها على سبيل المثال لا الحصر، مقتل وليد المهتار وجرح آخرين في إشكال وقع في قبرشمون، ومقتل علي محمد يوسف عواضة في بعلبك، ومقتل مختار ويزاني في شقرا، ومقتل جورج الريف بطعنات سكّين في الجميزة، إلخ.
(2)يُعرف البرنامج المذكور بإسم Bikes-for-Guns Exchange Program وكذلك بإسم More Bikes Less Guns، وهو مُطبّق في العديد من الدول الأوروبيّة، خاصة الإسكندينافيّة منها، وفي بعض الولايات الأميركية وفي أستراليا ونيوزيلاندا وغيرها.